كود اعلان

مساحة اعلانية احترافية

آخر المواضيع

محمد خضير... يحيى الشيخ_ العودة للمنبع






(*) نص نشره القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.


"فرشتُ لغتي على الأرض وركعتُ،

ألِفَ الترابَ فمي". (يحيى الشيخ: من مزامير يحيى)

.............  

  يعود يحيى الشيخ إلى منابع الرسم الأولى، ويصرّح في منشور على صفحته في الفيس بوك بتاريخ ١٠ آذار ٢٠٢١ بأنه سيتخلّى عن التجريد المحض The abstract art في منهجه التعبيري عن موضوعاته التي تمتزج في تنفيذها شخصيةُ الرسام بالشاعر الحكيم، والقصّاص الأنثربولوجي: "على نحو خاص، لا أرى في "التجريد" حلاً مناسباً هذه الايام، وربما لم يكن في الماضي أيضاً. ناهيك، عزيزي، أني لم أعد أطيق النظر إليه ولا أرى فيه غير لعبة استساغها أصحابها وروجت لها المؤسسات... أعرف أن لا أحد يتخلى عن حريته! والتجريد حرية تامة، لكنها حرية غير مسؤولة إلا ازاء ذاتها وسوق الفن الذي تحول إلى ذات محايثة لذات الفنان"_ من رسائل "زهرون"_ الفيسبوك، صفحة الفنان_

وعلى هذا المنوال، يفكر يحيى الشيخ بأكثر من كتاب شعري، ولا يغفل أن يختم اعترافه الذي بدأه في وقت مبكر لتجاربه الغرافيكية كي تدرك الشخصية، ذات البعد الميثولوجي والطبيعي. فالغايات البعيدة تتوجّه إلى أن تنحلَّ جزئياتها التشكيلية في نصّ يُتلى داخل بهو الطبيعة/ الفردوس، على نسق التراتيل الأقنومية، والمزامير العشقية، والحكمة الترابية:

  "في ساعة مستعارة من تحت الصخور،

   مضمخة بظلال عتيقة،

   يعفرها عبق التراب،

   رحت أجوب الضفاف،

   أقطف جذوراً طرية وأعلسها

   قلت في نفسي: 

  "في نسغ الجذور قصيدة عظيمة"

  ساعتها كان النهر واجماً،

  وأتذكر أني قلت في نفسي:

  "لابد أنه ينتظر قصيدة عظيمة،

  تأتي بها الينابيع"

  وأتذكر أني شاهدت موجة صغيرة تعلو من اعماقه،

  حينها جاءت ريح،

   ريح عابرة بلا هدف،

   اختطفت الموجة والقت بها على اليابسة،

   وأتذكر أنها قالت، قبل أن تشربها الأرض، ما لا أفهمه،

   وكانت أعظم القصائد". 

                          (من مخطوطة "الجزائر البلورية")

                           _صفحة الفنان على الفيسبوك_







  ومن يراقب بوادر هذا التحول/ اليقين/ الارتداد التعبيري نحو الكتابة الحرّة سيفهم حيثياتها المتأخرة. كانت نزعة الرسم التجريدي_ التعبيري_ لدى فنان من جيل تنويري، متمرد على الأبوية الأكاديمية، مسبَّبةً ببصيرة ثقافية، غير تقليدية، غير جماهيرية؛ في وقت كان التزاحم على محاكاة الواقع يمرّ عبر مسوّغات أيديولوجية قوية. لم يتسنَّ لفنان مشبَّع بشعور الانتماء الطبيعي/ الفطري للفن والحياة، أن يتخلّص من شعور الجماعة المرحلي، وأن يفصل بين طبيعته "العذراء" المسالمة وطبيعة المجتمع المسلّح بتجربة شهوانية حارّة. لم تكن ثقافة الجسد الاجتماعي تفسح للشعور "البريّ" بالتمدد في فضائه الحرّ، وتنقيته من شهوة الاغتصاب والاقتحام والإشهار الضخم (ضخامة أجساد كاظم حيدر العمّالية والدينيّة، وأوضاع النساء الأيروسية في لوحات ماهود أحمد، وقبلهما بورتريهات جيل الرواد الانطباعي المؤثرة). كانت تقاليد الرسم الأكاديمي، في العقود الوسطى من القرن الماضي، تفرض الالتزام بأوضاع تشخيصية في اتجاهين: وضع الثورة التعظيمي/ الحركي للأجساد، ونقيضه وضع الطبيعة الساكنة للأشياء المنزلية وبورتريهات الشخصيات المسترخية في زاوية ما. ولم يكن سائداً تصويرُ أوضاع تصويرية غير منمذَجة، متوارية في اقفاصها الشعورية، الإنفرادية، إلا بحدود قليلة جداً (تمثلت أول ظهورها برسوم الغرافيك عند طلاب درسوا فنّ التصميم الطباعي في بلدان أوربا الشرقية، نهاية العقد الستينيّ من القرن الماضي). حينئذٍ، شاع فنّ (البوستر السياسي) الذي استثنى من مساحته الوضوحَ التجسيمي للأشخاص، وأفردَ للتصميم التعبيري المجرّد مكانةً  تزاحم مكانة الأشكال الواقعية وتأثيراتها اللونية والبصرية. 

   كان فنّ البوستر ابنَ المرحلة الوسطى تلك بحقّ، ووليدَ الأفق السياسي الذي ألزمَ الوجوهَ المخطوفة بالمحافظة على مناخ الأيديولوجيا السائدة، عن طريق الرسم والكتابة الموضِّحة لها (أشهرها بوسترات يحيى الشيخ وضياء العزاوي عن القضية الفلسطينية). لكنّ فنّاني البوستر الذين اشتغلوا بزخم الأفق الأيديولوجي ذاك، استطاعوا أن يستبقوا خواطرَ غير مُعلنة، وخزيناً من الموضوعات غير البريئة والمشاعر الأدبية والتأملات الذاتية، لأجلٍ غير مسمّى. ومن تلك الفسحة الطباعية الغزيرة بالصُور والمعاني، سرَحَ يحيى الشيخ في مرعى زخمِه الثوري القديم، واستعمل ذكرياته الرعوية في كتابة نصوص سيرته الذاتية، بعد سنوات طوال، عندما احتاج اليها فعلاً في غير منحاها الأصلي.

   وعلى هذه الوتيرة، من الانزياح التعبيري، والتحوّل الطباعيّ، كان يحيى الشيخ واحداً من فناني "البوستر" التأثُّريين، الذين ناسبوا بدقة بين طبيعتهم الغرافيكية التجريدية،  ومذاق المرحلة التعظيمي/ التجسيمي، ثم خرجوا بهذا المزيج إلى برّية لا حدود لتعبيراتها الكتابية. كان انعكاس هذه "الحرية التجريدية" كبيراً في سلخ جِلد اللوحة، واستخلاص مذاق الكلمة من المساحة الغرافيكية، المنصَّصة بتعبيرات شعرية وقصصية. كانت هذه التجربة/ الخروج إلى المشهد البرّي (الموصوف بدءاً بالهجرة البعيدة عن المنشأ الأول)، لا تقلّ زخماً عن أيديولوجيا المدينة التي شجّعت فريقي الرسم الستينيّ ذاك: الحركيّين الأيروسيّين، ومُصوِّري الأشياء الساكنة والبورتريهات المسترخية، على الابتكار والمزاوجة بين التصوير والكتابة. ونضيف الى هذين الفريقين الفنيّين قلّةً جرّبت معرفتها في استكناه قيمة الحرف العربي، وغارت الى أبعد من سطح اللوحة وورقة الكتاب (أشهرهم شاكر حسن آل سعيد وجميل حمودي).

   نعود إلى النزعة الطبيعية في رسوم يحيى الشيخ، المنفصلة عن خطّ الأفق الأول، والعميق في تأثريته التجريدية. أليس الزخمُ الذي حرّك الأشكالَ عبر مساحة جرداء، أو مدينة مستباحة بالأهواء والشهوات، الذاهبة كنبع صاف إلى مصبّها البعيد عن العيون، هو ذاته فطرةُ الرسّام، المضاعَفة بالنصوص التعبيرية، الشعرية والقصصية؟ لم يصدّق الفنان "الشيخ" أنه يمسك بالتجربة البعيدة عن موقعه الجديد من طرفيها، ويبذل أقصى ما لديه من شعور "بريّ/ بريء" في استعادة موروث، ذرّته الرياح بعنف وإقصاء باهظين، فراح يستنطق الأصولَ الغائبة بروح فتيّة.

  التأثيرُ الغرافيكي في مرحلة النشوء التصويري، يعود عبر أشكال مجسَّمة بتأثيرات طبيعية وأخرى ذهنية متصوَّرة (الطقوس، التعازيم، الأحلام، الأهواء الضائعة، نصوص الكتب المقدسة...) يضاف إلى ذلك ما قد تعطيه المواقع الجديدة من تأثيرات، تجعل خطَّ الأفق المستدير يقف في متناول رسامٍ لا يعترف بالاماكن والأزمان.. فالأشياء تتداعى، تنجذب، تنبت، أو تنرسم، في سهولة وبهجة، حيثما تبدأ اللحظة الغرافيكية باستئناف المسير والانتقال. لقد جاءت لحظة الاعتراف_ ما بعد سيرة الرماد الذاتية_ لتؤكّد ولادةً جديدة للرسّام، متعدد الانتاج، واندماجَه بخامات الطبيعة الأصلية: النسيج، الرمال، الأصباغ، القواقع، العظام .. بما يشبه الحالة الكونية المعروفة ب"وحدة الوجود"، التي تعني فيما تعني: "الكائن المتعدد_ المتجسد  في كلمة واحدة_ نص_ رسمة_ انعكاس وحسب". إنه انتقال نجد معناه في نصّ من سلسلة "روايات عن ولادته"_ الرواية الثانية:

  (راحت أمّي صباحاً، وهي في أوقاتها الأخيرة قبل الولادة، تملأ الماء من النهر، ومن عاداتها النزول فيه، فباغتها الطلق، وسقط رأسي في الماء بسلاسة ولا ألم. قالت إنها شاهدت سمكة كبيرة قفزت نحوي وقطعت حبل السرة والتهمته، وراحت تسبح إلى جانبي وأنا اسبح متحرراً من اغلالي، حتى التقطني زورق عابر وحملني إليها"

                     ..............................................................

ملحوظة: اللوحات والصور والنصوص من صفحة الفنان الشخصية على موقع الفيسبوك

إرسال تعليق

0 تعليقات

فلسفة

مساحة اعلانية احترافية

ثقافة

مساحة اعلانية احترافية

{getMailchimp} $title={Mailchimp Form} $text={Subscribe to our mailing list to get the new updates.}

مساحة اعلانية احترافية