كود اعلان

مساحة اعلانية احترافية

آخر المواضيع

"البيت الذهبي" لسلمان رشدي



في روايته الأخيرة "البيت الذهبي" ينقل سلمان رشدي قدراته الأدبية المشهورة إلى روح العصر الأمريكية بأسلوب رائع رشيق.

ففي يوم تنصيب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، يظهر ملياردير غامض جاء من شواطئ أجنبية ليقيم في بيت فخم يطلّ على حديقة مشتركة تسمى (الغاردنز) في حيّ الفيليج بمدينة نيويورك. فيرتاب سكان البيوت المجاورة من هذا القادم الجديد الغريب الأطوار مع أفراد عائلته. وبالإضافة إلى اسمه الغريب، ولكنته الغريبة، كان برفقة نيرو غولدن ثلاثة أبناء: بيتيا المدمن على الكحول المصاب بالتوحد وبرهاب الأماكن المفتوحة والعامة، المضطرب عقلياً؛ وآبوو، الفنان المتوهج، النهم جنسياً وروحياً؛ ودي، أصغر أبنائه الذي يحتفظ بسر خطير لا يريد الإفصاح عنه حتى لنفسه. ولم تكن ترافقهم أمّ، ولا زوجة، حتى ظهرت فاسيليسا، المهاجرة الروسية الجميلة التي أصبحت ملكة لذلك الملك، نيرو – ملكة تنتظر وريثاً.

أما دليلنا إلى عالم عائلة غولدن فهو جارهم، رينيه، المخرج السينمائي الطموح، الذي يعدّ فيلماً عن آل غولدن بعد أن تسلل بمهارة إلى داخل بيتهم، واطلع على أعمق أسرارهم ومشاكلهم ومن ثم جرائمهم. وفي الوقت نفسه، مثل نكتة سمجة، يترشح شخص شرير للرئاسة الأمريكية فيقلب مدينة نيويورك رأساً على عقب.

إن رواية البيت الذهبي التي تضج بالأحداث السياسية والثقافية في أمريكا، تشكل انتصاراً لعودة سلمان رشدي إلى الواقعية، التي أسفرت عن ملحمة عصرية مليئة بالحب والإرهاب، بالفقدان والتجديد – إنها رواية قوية وجريئة تمنح سلمان رشدي قوة ينير فيها عصرنا المظلم الجديد.

إنها ملحمة تطرح الأسئلة الأبدية عن البشر وأحوالهم: هل يمكن أن يكون المرء صالحاً وشريراً في وقت واحد. هل العائلة قدر؟ هل الماضي يلاحقنا باستمرار؟ في عصر الاستقطاب إلى التطرف، هل نستطيع إيجاد أرضية مشتركة؟ هل سيبقى الطغاة بيننا إلى الأبد؟ هل ستتعلم البشرية ذات يوم؟ هل تستطيع القصّة والفن تنويرنا؟ 

وعندما تصل حكاية سلمان رشدي إلى ذروتها، تنهض الحياة، كما هو دأبها، بعناد من بين الرماد، كما ينهض الحب".]


مقتطف من رواية "البيت الذهبي" لسلمان رشدي، ترجمة خالد الجبيلي، ننشرة بالاتفاق مع منشورات دار الجمل




ما هي الحياة الجيدة؟ ما هو نقيضها؟ هذان سؤالان لا يمكن لرجلين أن يعيطا نفس الإجابة عليهما. ففي زمننا هذا الجدير بالازدراء، ننكر عظمة الكوني، ونؤكّد تعصّبنا المحليّ ونمجّده، لذلك، لم نعد نستطيع أن نتفق على أمور كثيرة. ففي زمننا المنحطّ هذا، لا يهتم الرجال بشيء سوى التبجح والمباهاة والمكاسب الشخصية - وسيزعم رجال تافهون متحذلقون لا يحرمّون شيئاً إذا كان ذلك سيخدم قضيتهم التافهة – بأنهم زعماء عظماء محبّون للخير، يعملون للمصلحة العامة، ويعتبرون جميع من يعارضونهم كذابين، وتافهين، وحسودين، وأغبياء، ومملين، وبعكس الحقيقة تماماً، غشّاشين وفاسدين. إننا منقسمون إلى درجة كبيرة، أحدنا يعادي الآخر بشدة، يدفعنا إلى ذلك النفاق والاحتقار، وننغمس بالتهكم بحيث ندعو الأبهة والفخامة مثاليتين، ونضيق ذرعاً بحكّامنا، ونصبح مستعدين للسخرية من مؤسسات دولتنا، إلى حدّ أن كلمة الطيبة قد أُفرغت من معناها، ربما، لنضعها جانباً إلى حين، شأن جميع الكلمات المسمّمة الأخرى من قبيل، الروحانية، والحلّ النهائي، و (على الأقل عندما تُطبّق على ناطحات السحاب والبطاطا المقلية) الحرّية.

لكن في ذلك اليوم البارد من أيام كانون الثاني 2009، عندما وصل الرجل الغامض السبعيني الذي صرنا نعرفه باسم نيرو يوليوس غولدن إلى حيّ غرينيتش فيليج بسيارة ليموزين ديملير مع ثلاثة أبناء، ومن دون أثر لزوجة، كان على الأقل حازماً حول كيف يجب تقييم الفضيلة، والتمييز بين الغث والسمين، بين العمل الرديء والجيد. "في بيتي الأمريكي"، قال لأبنائه الذين كانوا يصغون له باهتمام شديد في سيارة الليموزين التي كانت تشقّ طريقها من المطار إلى مسكنهم الجديد، "ستُطبّق الأخلاق بحسب المعيار الذهبي". سواء أكان ذلك يعني أن الأخلاق ثمينة جداً، أم أن الثروة هي التي تقرّر الأخلاق، أم أنّه هو شخصياً، باسمه المتألّق الجديد، سيكون القاضي الوحيد الذي يحكم على ما هو صحيح وما هو خطأ، لم يقل ذلك، ولم يطلب منه جولي الأصغر، بحكم العادات البنوية الطويلة، توضيحاً على ذلك. (جولي هي الجمع الإمبريالي الذي كانوا يفضلّونه كلهم على كلمة غولدن: لم يكونوا رجالاً متواضعين! لكن أصغر أبنائه الثلاثة الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين، الخمول، بشعره المنسدل على كتفيه ووجه في إيقاعات جميلة مثل ملاك غاضب، سأل سؤالاً واحداً. "ماذا سنقول"، سأل والده، "عندما يسألونني من أين جئت؟" فتحوّل وجه الرجل العجوز إلى مرحلة من الاتقّاد القرمزي، وصاح، "لقد أجبت على هذا السؤال من قبل"، وأضاف، "قل لهم ليذهب استعراض الهوية إلى الجحيم. قل لهم إننا ثعابين سلخنا جلدنا وغيّرناه. قل لهم إننا انتقلنا إلى وسط المدينة من كارينجي هيل. قل لهم إننا ولدنا البارحة. قل لهم إن السحر أنجبنا، أو إننا أتينا من أحد أحياء ألفا سنتوري (نجم رجل القنطور) في سفينة فضائية مخبأة في ذيل مُذَنَّب. قل لهم إننا لسنا من لا مكان أو من أيّ مكان أو في مكان. إننا أشخاص مُتخيّلون، زائفون، مُخترعون، نبدّل أشكالنا، أي أمريكيون. لا تقل لهم اسم المكان الذي جئنا منه. لا تذكره على لسانك أبداً. لا الشارع، ولا المدينة، ولا البلد. لا أريد أن أسمع هذه الأسماء مرة أخرى".

ترجلّوا من السيارة في وسط حي الفيليج القديم، في شارع ماكدوغال أسفل شارع بليكر بقليل، بالقرب من المقهى الإيطالي القديم الذي لا يزال يكافح بشكل ما، غير عابئين بالسيارات التي راحت تطلق أبواقها وراءهم، وبراحة اليد المتوسّلة الممدودة لمتسول وسخ واحد على الأقل، وتركوا سيارة الليموزين تقف في وسط الشارع بينما راحوا يفرغون حقائبهم من صندوق السيارة ببطء - حتى أن الرجل العجوز أصرّ على أن يحمل حقيبته بنفسه - وحملوها إلى مبنى "الفنون الجميلة" الكبير الواقع في الجانب الشرقي من الشارع، قصر موراي سابقاً، الذي أصبح يُعرف بعدئذ باسم البيت الذهبي. (لكن الابن البكر فقط، الابن الذي لم يكن يحبّ أن يغادر البيت والذي كان يضع نظارات داكنة جداً وتبدو عليه تعابير قلقة، كان يبدو أنه مستعجل) وهكذا وصلوا، كما كانوا ينوون ليمكثوا مستقلين، غير مبالين باعتراضات الآخرين.

كان قصر موراي، أضخم مبنى في الغاردنز وأعظمه على الإطلاق، لم يقطنه أحد منذ سنوات كثيرة، سوى المسؤولة عن البيت، المرأة الأمريكية الإيطالية الأصل، السليطة اللسان التي يزيد عمرها على خمسين سنة، ومساعدتها المتعجرفة أيضاً، مع أنها كانت أصغر منها بكثير وحبيبتها التي تقطن معها. دارت بنا الظنون حول هوية صاحب هذا البيت، لكن المشرفتين الشرستين الواقفتين عند باب المبنى رفضتا أن تشبعا فضولنا. لكن هذه السنوات كانت السنوات التي بدأ فيها الكثير من أغنى أغنياء العالم بشراء عقارات، لا لسبب إلاّ من أجل امتلاكها، وتركوا بيوتاً فارغة ملقاة في أنحاء الكوكب مثل أحذية مهملة، فقلنا لا بد أنه أحد حكّام النخبة الروس، أو شيخ من مشايخ النفط، لكننا هززنا أكتافنا بلا مبالاة، لأننا تعوّدنا على أن نعتبر البيت الخاوي هناك كأنّه لم يكن موجوداً. وكان هناك شخص آخر له علاقة بالبيت، عامل ماهر دمث من أمريكا اللاتينية يدعى غونزالو كانت قد وظفتّه المشرفتان على المنزل لرعايته والعناية به. وعندما يتاح له قليل من الوقت، كنا ندعوه أحياناً إلى بيوتنا لإصلاح بعض المشاكل التي تظهر في التمديدات وأعمال السباكة، وكان يساعدنا في إزالة الثلج من أسطح بيوتنا ومداخلها في منتصف الشتاء. وكان يؤدي لنا هذه الخدمات لقاء مبالغ زهيدة كنا ندَّسها سرّاً في يده، مع ابتسامة.

كانت الحديقة المشتركة (الغاردنز) التاريخية في ماكدوغال-سوليفان - لمنح الغاردنز اسمها الكامل الرنّان - الفضاء الجريء الساحر الذي عشنا وربّينا أطفالنا فيه، المكان الذي كنا نلوذ إليه بسعادة من العالم المخيف، المخيّب للآمال، القابع وراء حدودها، ولم نأسف يوماً لأننا أحببناها كثيراً. البيوت الأصلية من الطراز الإحيائي اليوناني الواقعة عند تقاطع شارعي ماكدوغال وسوليفان التي شُيِّدت في أربعينات القرن التاسع عشر، والتي أعيد بناؤها على الطراز الكولونيالي في عشرينات القرن العشرين على يد مهندسين معماريين كانوا يعملون لصالح شخص يدعى السيد وليام سلون كوفين كان يبيع الأثاث والبسط. في ذلك الوقت، أُلحقت الباحات الخلفية لتلك البيوت ببعضها لتشكّل حديقة مشتركة (الغاردنز)، يحدّها شارع بلييكر شمالاً، وهيوستن جنوباً، خُصصت لسكّان البيوت المطلة عليها. وكان قصر موراي غريباً، فمن نواح عديدة، كان رحباً جدياً بالمقارنة مع البيوت التي تطلّ على الغاردنز، بناء مميز جميل بُني أصلاً للمصرفي المعروف فرانكلين موراي وزوجته هاريت لانيير موراي بين الأعوام 1901 و1903 بواسطة شركة هوبين أند كوين الهندسية، التي قامت، لإفساح مكان لبناء البيت، بهدم بيتين من تلك البيوت التي شُيِّدت أصلاً في سنة 1844 والتي كان يملكها التاجر نيكولاس لو. وقد صُمّم البيت على طراز عصر النهضة الفرنسي ليكون بيتاً رائع الجمال وعصرياً، وهو طراز توجد لدى شركة هوبين أند كوين خبرة كبيرة فيه اكتسبتها من مدرسة الفنون الجميلة، ثم في أثناء عملها لصالح شركة ماك كيم وميد أند وايت. وكما عرفنا بعد ذلك، اشتراه نيرو غولدن في أوائل ثمانينات القرن العشرين. وكان يدور همس منذ زمن بعيد في الغاردنز بأن صاحب البيت كان يأتي ويذهب، وربما كان يمضي في البيت يومين في السنة، لكن أحداً منّا لم يره قط، مع أننا كنا نرى بضع نوافذ في البيت مضيئة في الليل أكثر من المعتاد، وفي أحوال نادرة جداً، كنّا نلمح خيالاً وراء ستارة، فقرر الأطفال في البيوت المجاورة بأن البيت مسكون بالأشباح، لذلك كانوا يخافون الاقتراب منه.

هذا هو البيت الذي وقفت أمام أبوابه الكبيرة التي شُرعت في ذلك اليوم من أيام كانون الثاني سيارة الليموزين دايملر، وترجلّ منها رجال عائلة غولدن، الأب والأبناء. وعند المدخل، اصطفت لجنة الاستقبال، المشرفتان العابستان اللتان جهزتا كلّ ما يلزم لوصول سيدهما. دخل نيرو وأبناؤه إلى البيت ووجدا عالم الأكاذيب الذي سيقيمون فيه منذ هذه اللحظة: لم يكن مسكناً جديداً عصرياً بالنسبة لأسرة أجنبية ثريّة لتتخذ منه مسكناً لها، شيئاً فشيئاً، عندما تبدأ تتكشف حياتهم الجديدة، وتزداد صلاتهم عمقاً بالمدينة الجديدة، وتزداد خبراتهم وتجاربهم - لا – وإنما بيت يقف فيه الزمن ثابتاً منذ عشرين عاماً أو أكثر، الزمن يحدّق بطريقته اللا مبالية فوق كراسٍ مليئة بالخدوش، وسجاجيد بهت لونها مع الزمن، ومصابيح متوهجة تعود إلى الستّينات، وينظر بمتعة إلى صور جميع الأشخاص المناسبين لذات نيرو غولدن الشاب برفقة شخصيات من وسط المدينة، رينيه ريكارد، ووليام بورو، وديبورا هاري، بالإضافة إلى زعماء وول ستريت والعائلات القديمة في السجل الاجتماعي التي تحمل أسماء مقدّسة مثل لوسي بيكمان وأوشينكلوس. وقبل أن يشتري هذا البيت، كان لدى الرجل العجوز شقة علوية بوهيمية واسعة عالية السقف، تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف قدم مربع، تقع عند الناصية بين شارعي برودواي وغريت جونز. وفي أيام شبابه البعيدة، كان يُسمح له بأن يتسكع حول أطراف المصنع، يجلس بامتنان عند ناصية الشارع مع الصبيين الغنيين سي نيوهاوس وكارلو دي بينديتي. لكن مضى زمن بعيد على ذلك. وكان البيت يضم مخلفّات تذكارية حول تلك الأيام، وزياراته التالية في الثمانينات أيضاً. كانت معظم قطع الأثاث مودعة في مخزن، وكان ظهور هذه الأشياء من حياة سابقة بمثابة نبش ينطوي على استمرارية لم يكن يمتلكه تاريخ القاطنين. لذلك كان يبدو لنا البيت دائماً شيئاً زائفاً، جميلاً. ودمدم أحدنا للآخر بضع كلمات قالها بريمو ليفي: "هذه هي الفاكهة المقتطفة للتو من المنفى، من الاجتثاث: هيمنة الزائف على الحقيقي".

لم يكن ثمة شيء في البيت يشير إلى أصولهم، وظلّ الرجال الأربعة يصرّون بعناد على عدم ذكر أي شيء يتعلق بماضيهم. لكن لا بد أن الأشياء ستتسرّب، وهكذا عرفنا قصّتهم بعد حين، لكن قبل أن نعرفها، كانت لدينا جميعاً فرضياتنا حول تاريخهم السرّي، وقد غلّفنا قصصنا بقصصهم. ومع أن بشرتهم كلّهم تكاد تميل إلى اللون الأبيض، من اللون الحليبي الشاحب للابن الأصغر إلى لون نيرو العجوز الذي يميل إلى لون الجلد، كان واضحاً للجميع بأنهم لم يكونوا أناساً "من البيض" التقليديين. وكانت لغتهم الإنكليزية نقية، لا تشوبها شائبة، ذات لكنة بريطانية، ولا بد أنهم درسوا في جامعتي أكسفورد وكمبريدج (أوكسبرج)، فظن معظمنا في البداية، وكنا مخطئين في ذلك، بأن إنكلترا المتعدّدة الثقافات هي البلد الذي لا يمكن تسميته، وأن لندن المتعدّدة الأعراق هي المدينة التي لا يمكن تسميتها. قد يكونوا لبنانيين، أو أرمن، أو لندنيين من جنوب آسيا، افترضنا، أو حتى من أصول أوروبية متوسطية، مما يفسّر تخيلاتهم الرومانية. ما الخطأ الشنيع الذي يمكن أن يكون قد ارتُكب بحقهم هناك، ما هي الإهانات المريعة التي قد يكونوا قد عانوا منها، مما اضطرهم لأن يتنكروا لأصلهم؟ حسناً، حسناً، بالنسبة لمعظمنا، فإن هذه مسألة تخصهم هم، وكنّا مستعدين لترك الأمر عند هذا الحدّ، حتى لم يعد بوسعنا عمل ذلك. وعندما جاء ذلك الوقت، فهمنا بأننا كنّا نطرح على أنفسنا الأسئلة الخاطئة.

إن نجاح التمثيلية التي اصطنعوها باتخاذهم أسماء جديدة، ناهيك عن الفترتين الرئاسيتين الكاملتين، وعيش هذه الشخصيات الأمريكية المخترعة في قصر من الأوهام التي قبلناها جميعاً كلها، بالإضافة إلى جيرانهم وأصدقائهم الجدد، تقول لنا الكثير عن أمريكا نفسها، والمزيد عن قوّة الإرادة التي أسكنوا فيها هويّاتهم الحربائية، والتي أصبحوها، في عيوننا جميعاً، مهما قالوا حقيقة من هم. وإذا نظرنا إلى الماضي، فلا يمكن للمرء إلاّ أن يُدهش من عظم خطتهم، وتشابك تفاصيلها التي يجب تفكيكها، جوازات السفر، والهويّات الشخصية الرسمية، وشهادات السواقة، وأرقام الضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، وأعمال التزوير، والصفقات، وتلقي الرشى، وصعوبات كل ذلك، والغضب أو ربما الخوف الذي قاد كلّ هذه الخطة الرائعة المتقنة والمنحرفة. وكما عرفنا لاحقاً، فقد كان الرجل العجوز يعمل على هذا التحوّل، ربما منذ عقد ونصف العقد من الزمن قبل أن ينفذ خطته. ولو كنا نعرف ذلك، لأدركنا أن ثمة شيئاً ضخماً كان مخفياً. لكننا لم نعرف. كان مجرد الملك الذي يدّعي لنفسه ما ليس له حق فيه، وما يُزعم أنهم أمراء، يعيشون في جوهرة الحيّ المعمارية.

في الواقع لم يبدوا لنا أشخاصاً غريبي الأطوار. إذ يطلق على الناس في أمريكا أشياء مختلفة -ففي دليل الهاتف، عندما كانت هناك أدلة هاتف، كان ما يدعى الغرائبية هي التي تحكم. هكلبري! ديمسدال! أيكابود! أهاب! فنيمور! بورتنوي! درادج! ناهيك عن عشرات، مئات، آلاف الغولد، والغولدوتر، والغولدشتاين، والفينغولد، والغولدبري. وكان الأمريكيون يقررون دائماً أيضاً ما يريدون أن يُسمّون، ومن يريدون أن يكونوا، فأزالوا عنهم أصولهم "الغاتز" وأصبحوا غاتزبي، أصحاب صناعة القمصان، ومتابعو الأحلام الذين يُدعون ديزي، أو ربما ببساطة أمريكا. وأصبح صموئيل غولدفيش (فتى ذهبي آخر) صموئيل غولدوين، وأصبحت عائلة أيرتزون تُدعى فندربيلتز، وأصبحت كليمنس تُدعى توين. واختار الكثيرون منّا، كمهاجرين - أو آباؤنا أو أجدادنا – أن يتركوا ماضيهم وراءهم بالكامل، كما يختار الآن أفراد أسرة غولدن، ونشجّع أطفالنا على التحدّث بالإنكليزية، لا باللغة القديمة للبلد الذي جئنا منه: تكلّم، البس، تصرّف، كنّ أمريكياً. لقد وضعنا الأشياء القديمة في القبو، أو رميناها، أو فقدناها. وفي أفلامنا والكتب ذات الرسوم - في كتب القصص ذات الرسوم التي أصبحت أفلامنا - ألا نحتفل كلّ يوم، ألا نكرّم، فكرة الهوية السرّية؟ كلارك كنت، بروس واين، دايانا برنس، بروس بانر، رافن دارخولم، إننا نحبّكم. ربما كانت الهوية السرّية في أحد الأيام فكرة فرنسية - فانتوماس، اللص، وكذلك فانتوم الأوبرا - لكنها ترسخّت الآن في أعماق الثقافة الأمريكية. وإذا أراد أصدقاؤنا الجدد أن يصبحوا قياصرة، فإننا لا نمانع في ذلك. فهم يتمتعون بذائقة رائعة، يرتدون ثياباً ممتازة، يتحدثون لغة إنكليزية ممتازة، ولم يكونوا أكثر غرابة، لنقل مثلاً، من بوب ديلان، أو أيّ مقيم محليّ آخر في فترة ما. وهكذا قُبلت عائلة غولدن لأنهم كانوا مقبولين. لقد أصبحوا أمريكيين الآن، لكن الحقيقة بدأت تتكشف أخيراً. كانت هذه أسباب سقوطهم: شجار شقيق، تحوّل غير متوقّع، دخول شابة جميلة ومصمّمة إلى حياة الرجل العجوز، جريمة قتل. (أكثر من جريمة قتل)، وبعيداً، في البلد الذي لا اسم له، أخيراً، شيء من عمل استخباراتي لائق.


إرسال تعليق

0 تعليقات

فلسفة

مساحة اعلانية احترافية

ثقافة

مساحة اعلانية احترافية

{getMailchimp} $title={Mailchimp Form} $text={Subscribe to our mailing list to get the new updates.}

مساحة اعلانية احترافية